خامساً: كيف نصل إلى المراقبة.
ما الطريق إليها؟
أقول: أول ذلك أيها الأحبة وهو من أعظمه أن نستحضر معاني الأسماء الحسنى التي تؤثر في هذا المقام والله تبارك وتعالى علمنا في هذا القرآن جملة طيبة كثيرة من أسمائه جل جلاله، وإنما ذلك من أجل أن نتعبده بهذه الأسماء.
فمن أسمائه التي تتعلق بهذا المعنى: الرقيب، وكذلك الحفيظ، والعليم، والخبير، والشهيد، والمحيط، واللطيف، إلى غير ذلك من الأسماء التي إذا أدرك العبد معناها وتعبد ربه بمقتضاها فإن ذلك يؤدي به إلى تحصيل مقام المراقبة.
فالرقيب هو الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء، الحفيظ الذي لا يغفل، العليم الذي لا يعزب عنه مثقال شيء من أحوال خلقه، يرى أحوال العباد ويحصي أعمالهم، ويحيط بمكنونات سرائرهم فهو مطلع على الضمائر، شاهد على السرائر، يعلم ويرى ولا يخفى عليه السر والنجوى {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [سورة المائدة: 117]، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [سورة النساء: 1]، {وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا} [سورة الأحزاب: 52].
رقيب على كل الوجود مهيمن *** على الفلك الدوار نجماً وكوكبا
رقيب على كل النفوس وإن تلذ *** بصمت ولم تجهر بسر تغيبا
رقيب تعالى مالك الملك مبصر *** به كل شيء ظاهر أو محجبا
والمراقبة هي ثمرة علمه بأن الله سبحانه وتعالى رقيب عليه ناظر إليه سامع لقوله مطلع على عمله في كل وقت وحين، وفي كل نفس وفي كل طرفة عين، فإذا أرادت عينه أن تمتد إلى النظر إلى ما حرم الله عز وجل لامرأة يشاهدها ويراها في الطريق أو في الأسواق أو كان ذلك في شاشة فإنه يدرك ويعلم أن نظر الله إليه أسبق من نظره إليها فيخاف وينزجر وينكف، عن هذا النظر، وكان الإمام أحمد رحمه الله كثيراً ما يردد:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل *** خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا أن الله يغفل ساعة *** ولا أن ما تخفي عليه يغيب
لهونا عن الأيام حتى تتابعت *** ذنوب على آثارهن ذنوب
فياليت أن الله يغفر ما مضى **** ويأذن في توباتنا فنتوب
قال رجل لوهيب بن الورد رحمه الله: "عظني؟"، قال: "اتق أن يكون الله أهون الناظرين إليك".
وهذا للأسف قد نقع فيه، وإذا تتابعت الغفلة على قلب الإنسان فإنه قد يستحي من مخلوق ضعيف ولربما كان صبياً صغيراً أن يفعل ما لا يليق بحضرته ولكنه يفعل العظائم والله تبارك وتعالى يراه ويطلع عليه وينظر إليه.
ومن أسمائه تبارك وتعالى: الشهيد، وهو مشتق من الشهود بمعنى الحضور، وذلك يستلزم العلم.
فالله مطلع على كل الأشياء يسمع جميع الأصوات، خفيها وجليها، ويبصر جميع المبصرات دقيقها وجليلها صغيرها وكبيرها، وأحاط علمه بكل شيء، فهو شهيد أيضاً، يشهد على الخلق يوم القيامة بما علم وشاهد من أفعالهم {وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعْمَلُونَ} [سورة آل عمران: 98]، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} [سورة النساء: 33]، {وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا} [سورة النساء: 79].
والفرق بين الرقيب والشهيد: أن الرقيب فيه زيادة حفظ، فالشهيد مطلع شاهد ينظر إليه، وأما الرقيب فهو مطلع عليه يحفظ عمله الذي يزاوله ويعمله؛ فالله تبارك وتعالى رقيب شهيد، وهو كذلك أيضاً حفيظ.
والحفيظ له معنيان:
الأول: أنه حفظ أعمال العباد فلم يذهب شيء منها، كل ما يقوله الإنسان وكل ما يعمله محفوظ، سواء كان ذلك من قبيل الخير أو الشر، وهذا المعنى من حفظه تبارك وتعالى يقتضي إحاطة علمه بكل المخلوقات، وأنه كتب ذلك تبارك وتعالى في اللوح المحفوظ وفي الصحف التي بأيدي الملائكة، وعلم بمقادير هذه الأعمال والأشياء، فلم يفت عليه شيء من ذلك.
المعنى الثاني من معاني الحفيظ: أنه يحفظ عباده مما يكرهون، {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا} [سورة يوسف: 64].
يقول ابن القيم رحمه الله في الجمع بين هذين المعنيين:
وهو الحفيظ عليهم وهو الكفيل *** بحفظهم من كل أمر عاني
حفيظ عليهم: يحفظ أعمالهم، وهو الكفيل بحفظهم: يحفظهم من المكاره.
جل الحفيظ فلولا لطف قدرته *** ضاع الوجود وضل النجم والفلك
حتى القطيرةَ من ماء إذا نزلت *** من السحب لها في حفظها ملك
{إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [سورة هود: 57]، فمن علم أن ربه حفيظ؛ حفظ جوارحه وقلبه من كل ما لا يليق.
والعلم الحديث أيها الأحبة أثبت أنه يمكن استرجاع ما يصدر من الإنسان من الأصوات، يقولون إن كلام الإنسان يتحول إلى موجات هوائية وأن هذه الموجات تبقى كما هي في الأثير بعد حدوثه ومن الممكن أن تسترجع وأن تسمع مرة أخرى، يقول لكنا علومنا قاصرة لم تصل إلى هذا بعد، يقولون لو استطاع العلم أن يكتشف جهازاً يستطيع أن يلتقط هذه الأصوات التي قالها القائلون منذ أن خلق الله عز وجل آدم -صلى الله عليه وسلم- فإن ذلك من الناحية العلمية ممكن لكن يقولون لم نصل إليه بعد، ونحن نعلم يقيناً أن الله تبارك وتعالى قد أحاط بذلك كله وأن الله قادر على أن يسمع الناس كلامهم، وهو قادر تبارك وتعالى على أن يعيد لهم الصورة من جديد في العمل الذي يزاولونه، الله على كل شيء قدير، ولهذا فإن الله ينطق الجوارح وينطق الأرض، الأرض تحدث أخبارها، والجوارح تتكلم بما عمله الإنسان فيها.
ومن أسمائه تبارك وتعالى: المحيط. فالله رقيب، شهيد، حفيظ، محيط، وهذه الأسماء: الرقيب والشهيد والمحيط والحفيظ تشترك في صفة العلم، لكن الرقيب يفيد مع العلم الحفظ، والشهيد يفيد مع العلم الحضور، والمحيط يفيد مع العلم الشمول والإحاطة والقدرة.
ومن أسمائه تبارك وتعالى أيضاً: العليم.
{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [سورة الحديد: 4]، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [سورة البقرة: 235].
والرب فوق العرش والكرسي *** لا يخفى عليه خواطر الإنسان
فمن علم أن الله تبارك وتعالى عالم بكل شيء، حتى بخطرات الضمائر ووساوس الخاطر فعليه أن يراقبه وأن يستحي منه وأن يكف عما لا يليق ولا يغتر بجميل ستره تبارك وتعالى وإنما يخشى بغتات قهره ومفاجآت مكره، قال الله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ} [سورة النساء: 108]، {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ۖ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [سورة الملك: 13]، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [سورة الملك: 14].
كل معلوم ففي علمك كان *** أنت محصيه زماناً ومكاناً
أنت سبحانك أدرى بالذي *** فيه ذرات نقاط وكياناً
أنت محصيها وهاديها إلى *** نشوة تسبيح قلباً ولساناً
إحاطة بجميع الغيب عن قدر *** أحصى بها كل موجود ومفتقد
وكلهم باضطرار الفقر معترف *** إلى فضائله في كل معتمد
العالم الشيءَ في تصريف حالته *** ما عاد منه وما يمض فلم يعد
ويعلم السر من نجوى القلوب وما *** يخفى عليه خفي جال في خلد
يقول سفيان الثوري رحمه الله: "عليك بالمراقبة مما لا تخفى عليه خافية، وعليك بالرجاء ممن يملك الوفاء".