هذا الإنسان الذي يراقب ربه تبارك وتعالى يكون قريباً منه، وإذا كان العبد قريباً من ربه فلا تسأل عن أنسه ولذته وسروره بمناجاة ربه تبارك وتعالى وبمعرفته، كما يقول الحافظ ابن القيم رحمه الله: "إن في القلب وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه فاقة لا يذهبها إلا صدق اللجأ إليه ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تذهب تلك الفاقة أبداً".
الثمرة الرابعة: السكينة والحياء والمحبة والخشوع والخوف والرجاء والتوكل، كلما اشتدت المراقبة أيها الأحبة المراقبة في قلب العبد أوجبت له من هذه المعاني الشيء الكثير، وذلك أن المراقبة هي أساس الأعمال القلبية وعمودها الذي قيامها به.
سئل بعضهم عن حاله في التوكل كيف حصلت هذه المرتبة؟، فقال: "على خصال أربع: علمت أن رزقي لا يأكله غيري فاطمأنت به نفسي، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتي بغتة فأنا أبادره، وعلمت أني لا أخلو من عين الله فأنا أستحي منه".
الخامس من ثوراتها: صحة الفراسة.
وقد قال بعضهم: "من عمر ظاهره باتباع السنة وباطنه بدوام المراقبة وكف نفسه عن الشهوات وغض بصره عن المحارم واعتاد أكل الحلال لم تخطئ له فراسة".
السادس من ثمراتها: إثار ما أنزل الله وتعظيم ما حرم الله وتصغير ما صغر الله.
السابع: حفظ الأوقات فلا تضيع سدى.
فمن تحقق في المراقبة خاف على فوات لحظة من ربه تبارك وتعالى.
سابعاً: السلف والمراقبة.
أذكر بعض النماذج، هذا عروة ابن الزبير -رضي الله عنه- خطب ابنة عبد الله بن عمر سودة وعبد الله بن عمر يطوف بالكعبة في الحج فلم يرد عليه، فقال عروة: "لو كان يريد لأجابني"، والله لا أعود إليه - يعني في هذا الشأن - يقول: "فسبقني إلى المدينة، فلما أتيتها قدمت المسجد فإذا هو جالس فيه، فسلمت عليه"، فقال: "قد ذكرت سودة"، فقلت: "نعم"، فسأله عن رغبته، هل لا يزال يرغب فيها في الزواج منها، فقلت: "نعم"، فقال: "إنك قد ذكرتها لي وأنا أطوف بالبيت أتخايل الله عز وجل بين عيني، وكنتَ قادراً على أن تلقاني في غير ذلك الموطن"، لاحظ ما رد عليه، نحن نطوف ماذا نصنع أيها الأحبة، الجوال والنظر والالتفات ولربما صدر من بعض أيضاً الناس ما لايليق مما حرمه الله عز وجل ويستحي الإنسان من ذكره في هذا المسجد.
ومرَّ ابن عمر رضي الله عنه براع في القصة المعروفة فقال: "هل من جزرة؟"، فقال: "ليس ها هنا ربها"، فقال ابن عمر: "تقول له أكلها الذئب؟"، فرفع رأسه إلى السماء وقال: "فأين الله؟"، فقال ابن عمر: "أنا والله أحق أن أقول أين الله"، فاشترى الراعي والغنم وأعتقه ووهبه هذه الغنم.
هذا عبادة بن الصامت كان جالساً مع أصحابه -رضي الله عنه- فأقبل الصنابحي، فقال عبادة: "من سره أن ينظر إلى رجل كأنما رقي به فوق سبع سماوات فعلم على ما رأى فلينظر إلى هذا من شدة مراقبته وتأدبه وخوفه وتحرزه".
كان الإمام أحمد رحمه الله يئنُّ في مرض موته، ذكر له أن طاووس بن كيسان قال: يكتب الملك كل شيء حتى الأنين فلم يئن أحمد رحمه الله حتى مات، إلى هذا الحد مع أن الأنين ليس بمحرم.
وهذا ابن دقيق العيد أيها الأحبة، يقول: "ما تكلمت بكلمة ولا فعلت فعلاً، إلا أعددت له جواباً بين يدي الله عز وجل"، ما تكلمت بكلمة ولا فعلت فعلاً؛ نعم كم مضى من أعمارنا؟، هل نحن كذلك؟، ولذلك أقول: نحن أيها الأحبة نحتاج إلى توبة، الداعية يحتاج إلى توبة، والعالم يحتاج إلى توبة، وطالب العلم يحتاج إلى توبة، والإنسان الذي يقول عن نفسه أو يقول عنه الآخرون بأنه ملتزم ومتدين يحتاج إلى توبة، من منا أيها الأحبة ما قال كلمة ولا فعل فعلاً إلا أعد له جواباً بين يدي الله تبارك وتعالى.
فنسأل الله أيها الأحبة أن ينفعنا بما نسمع وأن لا يجعل ذلك حجة علينا، كما نسأله تبارك وتعالى أن لا يمقتنا، نسأله تبارك وتعالى أن يتجاوز عنا وأن يعفو عنا وأن يجعل ما نقول عظة لنا وسبيلاً إلى صلاح قلوبنا وأحوالنا وأعمالنا، فنحن نستغفر الله عز وجل أيها الأحبة من كثرت ما نتكلم ومن كثرت ما نسمع على قلة العمل، فينبغي أن يكون لنا طريقة أخرى في حالنا مع الله تبارك وتعالى وفي النظر إلى أعمالنا، دعك مما يقوله الناس فإنهم ينظرون إلى ظاهرك والله عز وجل ناظر وعالم لباطنك.
هذا ختام ما أردت أن أذكره في هذا المجلس، وأسأل تبارك وتعالى أن يعينني وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أسأل الله الإخلاص في الظاهر والباطن.