الخبير
.وهو الذي يعلم بواطن وخفايا الأشياء، والارتباط بين العليم والخبير والشهيد لا يخفى؛ فإذا اعتبرنا العلم مطلقاً فهو العليم، وإذا أضيف إلى الغيب والأمور الباطنة فهو الخبير، وإذا أضيف إلى الأمور الظاهرة فهو الشهيد.
ومن أسمائه تبارك وتعالى: السميع والبصير.
يسمع الأصوات ويرى المبصرات، يسمع السر والنجوى، ويبصر ما تحت الثرى.
ومن أسمائه: المهيمن.
وهو الرقيب الحافظ لكل شيء، الخاضع لسلطانه كل شيء، فهو القائم على خلقه، الشهيد عليهم، {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [سورة الرعد: 33]، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [سورة آل عمران: 5].
ما شاء كان وما في الكون خافية *** تخفى على علمه بدأً ومنقلباً
إنا إليه أنبنا خاشعين له *** وجاعلين له من ذكره سبباً
فلا شيء في ملكه طوع إرادته *** بمستطيع خروجاً أينما ذهباً
جل الميهمن رباً لا شريك له *** وجل إن لم يهب شيئاً وإن وهباً
ومن أسمائه تبارك وتعالى: القريب.
{إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} [سورة هود: 61]، وقربه سبحانه وتعالى نوعان: قرب عام، وهو إحاطة علمه بجميع الأشياء، وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد.
والقرب الآخر قرب خاص بالداعين والعابدين {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [سورة البقرة: 186].
يقول عامر بن عبد القيس رحمه الله: "ما نظرت إلى شيء إلا رأيت الله تعالى أقرب إليه مني".
وسئل بعضهم عن المراقبة، فقال: "أولها علم القلب بقرب الله تعالى من العبد".
هذا السبب الأول الموصل إلى مقام المراقبة؛ أن نعرف معاني هذه الأسماء، وأن نتعبد الله تبارك وتعالى بمقتضاها.
السبب الثاني الذي يوصل إليها: هو أن نحقق مرتبة الإحسان.
أن نعبد الله عز وجل كأننا نراه، وإنما ينشأ ذلك من كمال الإيمان بالله وأسمائه وصفاته حتى يصير العبدُ بمنزلة كأنه يرى ربه تبارك وتعالى فوق سماواته مستوياً على عرشه، يتكلم بأمره ونهيه ويدبر أمر الخليقة، فينزل الأمر من عنده ويصعد إليه وتعرض أعمال العباد وأرواحهم عند الموافاة عليه كما يقول الحافظ ابن القيم رحمه الله.
الثالث من هذه الأسباب: هو كثرة ذكر الله عز وجل بالقلب واللسان.
وقد ذكر الحافظ ابن القيم في الوابل الصيب للذكر أكثر من مائة فائدة، وذكر العاشرة منها وهو أنه يورثه المراقبة حتى يدخله في باب الإحسان فيعبد الله كأنه يراه، ولا سبيل للغافل عن الذكر إلى سبيل الإحسان، كما لا سبيل للقاعد إلى الوصول إلى البيت الحرام، وأفضل الذكر كما هو معلوم ما تواطأ عليه القلب واللسان، ولو أردنا أن نوازن بين ذكر القلب وذكر اللسان، فلا شك أن ذكر القلب أفضل من ذكر اللسان بمجرده، لأن الإنسان قد يلهج بلسانه وقلبه في غاية الغفلة، فذكر القلب يثمر المعرفة، ويُهيج المحبة، ويثير الحياء، ويبعث على المخافة، ويدعو إلى المراقبة.
الأمر الرابع من الأمور التي توصل إلى مقام المراقبة: أن يحاسب الإنسان نفسه دائماً.
أن يلاحظ الأنفاس والخطرات، فلا يكون العبد من الغافلين.
جاء عن بلال بن سعد رحمه الله أنه قال: "لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى من عصيت".
قال ابن المبارك لرجل: "راقب الله تعالى"، فسأله الرجل عن تفسير ذلك فقال: "كن أبداً كأنك ترى الله".
وقال بعضهم: "إنما هي أرباح عيناك ولسانك وهواك وقلبك، فانظر عينيك لا تنظر بهما إلى ما لا يحل لك، وانظر لسانك، لا تقل به شيئاً يعلم الله خلافه من قلبك، وانظر قلبك لا يكن فيه غل ولا دغل على أحد من المسلمين، وانظر هواك لا تهوى شيئاً يكرهه الله عز وجل، فما لا تكن فيك هذه الأربع فالرماد على رأسك".
وقال آخر: "تعاهد نفسك في ثلاث مواضع، إذا عملت فاذكر نظر الله عليك، وإذا تكلمت فانظر سمع الله منك، وإذا سكت فانظر علم الله فيك".
وفؤادي كلما عاتبته *** في مدى الإجرام يبغي تعبي
لا أراه الدهر إلا *** لاهياً في تماديه فقد برح بي
يا قرين السوء ما هذا الصبا *** فني العمر كذا في اللعب
نفسي ما كنت ولا كان الهوى *** راقبي الله وخافي وارهبي
كان لبعض الأمراء وزير وكان هذا الوزير جالساً بين يديه وعند هذا الأمير بعض الغلمان وقوف بجانبه في ناحية من المجلس فلاحت من هذا الوزير نظرة إلى هؤلاء الغلمان لشيء عرض، ثم التفت إلى الأمير وإذا الأمير ينظر إليه، فخشي أن يظن الأمير أن الوزير ينظر إلى هؤلاء الغلمان الحسان لريبة، فما الذي حصل من هذا الوزير أيها الأحبة، جعل كلما حضر إلى مجلس هذا الأمير ينظر إلى تلك الناحية، ليوهم هذا الأمير، أنه إنما ينظر إليها لحول أو علة في خلقته، هذه في مراقبة مخلوق لمخلوق، أراد أن يمحو الصورة التي لربما وقعت في نظر أو في نفس هذا الأمير اتجاه هذا الوزير ليقول له لم أكن في ذلك اليوم أو في ذلك العام أنظر إليهم لريبة وإنما أنا هكذا أنظر إلى هذه الناحية خلقة، نظر مخلوق إلى مخلوق، فأين النظر إلى الله، أين مراقبة المعبود جل جلاله.
كأن رقيباً منك يرعى خواطري *** وآخر يرعى مهجتي ولسانيا
وقد كان لأحد الشيوخ تلامذة وكان يقدم ويفضل أحدهم وهم لا يدرون ما سبب ذلك، فتساءلوا عن سبب إيثاره وتفضيله لهذا التلميذ، فخرج معهم يوماً، ثم أعطى كل واحد منهم طائراً، وقال: ليعمد كل واحد منك بهذا الطائر إلى حيث لا يراه أحد، ثم يذبح هذا الطائر ويأتي، فذهبوا جميعاً وكل واحد ذهب إلى ناحية وذبح الطائر الذي معه وجاء، فجاء هذا التلميذ الذي كان يؤثره هذا الشيخ ومعه هذا الطائر لم يذبح، فقال له: "لِمَ لمْ تذبحه؟"، فقال: "قلت: حيث لا يراك أحد، فلم أجد مكاناً لا يراني الله عز وجل فيه"، فقال لهم: "لأجل هذا كنت أؤثره عليكم".
وكان لبعض الملوك مملوك وعبد يؤثره على غيره من خدمه ومماليكه، فكأن نفوسهم قد تحركت نحوه، وتساءلوا عن سبب هذا التفضيل، فبينما هو في سفر ومعه هؤلاء المماليك والخدم إذ لاحت من هذا الملك نظرة إلى جبل في قمته ثلج، فركب ذلك المملوك على فرسه وركضه حتى انطلق دون أن يشعر به أحد إلى ذلك الجبل وأحضر من ذلك الثلج وجاء به إلى هذا الملك ووضعه بين يده، فسأهله هذا الملك: "كيف عرفت أني أرغب هذا الثلج؟"، فقال: "رأيتك نظرت إليه"، فهو يلاحظ نظرات هذا الملك، فقال الملك لجلسائه وخدمه ومماليكه: "من أجل هذا كنت أؤثره، إنكم تلاحظون مطلوبات نفوسكم وهو يلاحظ نظراتي وخطراتي".
مخلوق ينظر إلى مخلوق آخر ينظر إليه، إذا حرك عينه اتجاه شيء قفز، وجاء به إليه، فأين نحن أيها الأحبة في معاملتنا مع الله تبارك تعالى، نعصي، ونقصر، وأحياناً ننقر الصلاة نقراً، ويصلي الإنسان بتثاقل، أين المحبة؟، وأين المراقبة؟، وأين التعبد لله عز وجل بمقتضى هذه الأسماء التي ذكرناها؟
يقول سفيان الثوري رحمه الله: "لو كان معكم من يرفع حديثكم إلى السلطان، أكنتم تتكلمون بشيء؟"، قالوا: "لا"، قال: "فإن معكم من يرفع الحديث".
وجاء عن آخر قال: "لو أن صاحب قدر جلس إليك، لكنت تتحرز منه، وكلامك يعرض على الله فلا تتحرز".
فالنفس أيها الأحبة تحتاج إلى محاسبة، وملاحظة، أن نحاسبها أعظم من محاسبة الشريك الشحيح لشريكه، فإذا أصبح الإنسان قال لنفسه: يا نفس؛ هذا يوم جديد قد أمهلك الله عز وجل، فلو أن نفس الإنسان خرجت، لتمنى ساعة أو لحظة، يسبح فيها تسبيحة، هذا يوم جديد، وإمهال جديد، فينبغي أن يُشْغَلَ بما يرضي الله تبارك وتعالى، لا أن يستزيد الإنسان من الغفلة، والإعراض، والتمادي في مساخط الله عز وجل حتى يفاجئه الموت.
سادساً: ما هي الثمرات والنتائج الطيبة التي تحصل لمن ربى نفسه على المراقبة واتصف بهذه الصفة، وبلغ هذه المراتب العظيمة.
أقول أول ذلك التأدب مع الله عز وجل، فهو يدرك أن الله يسمعه وأن الله يبصره، صفة الإنسان إذا جلس أمام الناس أيها الأحبة لربما راقبهم في كل حركة وفي كل سكناتهم، لو كان الإنسان يتصرف بتصرفات أيها الأحبة لا تليق، ثم اكتشف أن في هذا المكان كمرة، ما الذي يحصل؟، ولو كان هذا الإنسان يفعل بعض الأمور المباحة، لكنه لا يفعلها أمام الناس، ما الذي يحصل؟، لو كان هذا الإنسان يتكلم بكلام محرم لا يليق، مع امرأة لا تحل له، بفحش، ثم اكتشف أن هذا الكلام جميعاً يسجل ويسمع، ما الذي يحصل له؟، لو كان هذا الإنسان يجلس في غرفة، ويوجد فيها ما ينقل الصوت إلى مكان آخر وفي المكان الآخر أهله وقراباته ونحو ذلك وهو يتكلم مع زوجته، بكلام مباح، لا يقوله أمام الناس، كيف تكون حاله؟، فكيف بمن يتكلم بما لا يليق مما حرمه الله عز وجل والله يسمعه فلا يتأدب مع الله جل جلاله؟
الأدب مع الله عز وجل بأن نصون المعاملة معه فلا نشوبها بنقيصة، إذا صلى الإنسان يصلي صلاة لائقة أن يصون قلبه فلا يكون فيه التفات ولا تعلق بغير الله عز وجل، أولئك الذين يتعلقون بنظر المخلوقين وبثناء المخلوقين وإبراء المخلوقين؛ ماذا قالوا عن الحقل الفلاني وماذا قالوا عن المناسبة الفلانية وماذا قالوا عن الكلمة الفلانية وماذا قالوا، قلبه يعذب ويتشتت، وهكذا أيها الأحبة، أولئك الذي يتعلقون بالصور وأصحاب الصور، امرأة تتعلق بفتاة أو شاب يتعلق بمثله أو يتعلق بامرأة أو نحو ذلك، ولربما قال أحدهم لصاحبه كما ذكر بعضهم يسأل عن هذا: "أتمنى لو أني أحب الرسول صلى الله عليه وسلم كما أحبك"!!!، إلى هذا الحد، فهذه محبة مرضية قد يظن صاحبها أنها محبة لله وفي الله، هكذا أيضاً أن يلاحظ الإنسان إرادته فلا تتعلق إرادته بشيء لا يريده الله ولا يحبه ولا يرضاه منه فإذا وُجِدَت المراقبة أيها الأحبة فإن العبد تصلح أحواله في ظاهره وباطنه.