وقد قيل: أسرع الأشياء عظة للقلب وانكساراً له ذكر اطلاع الله بالتعظيم له، والمقصود أيها الأحبة أن المراقبة توجب صيانة الظاهر والباطن، فصيانة الظاهر بحفظ الحركات الظاهرة، وصيانة الباطن تكون بحفظ الخواطر والإرادات والحركات الباطنة، ومن الحركات الباطنة أيها الأحبة ضبط معرضة أمره وخبره، فيجرد الإنسان باطنه من كل شهوة وإرادة تعارض أمره، هذه مراتب عالية، أحياناً الإنسان في داخل نفسه قد يكره حكم الله عز وجل وتنفر نفسه منه وقد يتمنى في نفسه لو أن الله أباح له ذلك الأمر المحرم، أو أن الله يسر له ذلك ولربما كان في قلبه اعتراض على أقدار الله عز وجل، لماذا أنا فقير؟، لماذا أعمل دائماً وأكدح ولا أخرج بكبير طائل وفلان وفلان بعمل يسير يصلون إلى الأموال الطائلة والتجارات الكبيرة؟، هذا اعتراض على قدر الله عز وجل، فالله أعطى، أغنى وأقنى عن علم وبصر بالعباد لا يخفى عليه من شأنهم خافية.
وقد يصاب الإنسان ببلية بمكروه بمرض، فيعترض على الله تبارك وتعالى في نفسه، فيقول: أنا دائماً مبتلى، لماذا يحصل لي هذا الحادث الشنيع؟، وبهذه الطريقة؟، وتحصل لي هذه الكارثة، يحصل لي هذا البلاء وأناس فجرة لا يرعوون من معصية الله عز وجل يتقلبون بألوان العافية ونحن نتقلب في ألوان البلاء؟... هذا ما عرف الله عز وجل، ما عرف الله، لو عرف الله لعرف أن أهل البلاء هم أهل القرب من الله تبارك وتعالى، وأن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، وقد يعترض الإنسان على الله تبارك وتعالى فيما شرعه فيقول له اختيار مع الله وتقدم بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيعارض النصوص برأيه وبعقله وهواه، ويرد الآيات والأحاديث بهذا العقل الفاسد، ولربما حمل النصوص على المحامل الصعبة والتأويلات البعيدة من أجل أن يوافق هواه أو من أجل أن يوافق هوى الآخرين.
فالإنسان إذا راقب الله عز وجل تأدب معه الأدب اللائق فاستقام ظاهره واستقام باطنه ولم توجد في قلبه محبة تزاحم محبةَ الله عز وجل ولا في قلبه شبهة تعارض خبره، وقد قيل: "من راقب الله في خواطره عصمه الله في حركات جوارحه".
ولما سئل بعضهم: "بما يستعين الرجل على غض بصره عن المحظورات؟"، قال: "بعلمه أن رؤية الله تعالى سابقة على نظره إلى ذلك المحظور".
كتب أحد الأشخاص رسالة طويلة يقول فيها: بأنه من المربين، وأنه قد ألقى درساً متكاملاً عن غض البصر، وذكر لي في هذه الرسالة جملة كثيرة من الكتب التي تحدثت عن غض البصر، المراجع، وقال: أعرف ذلك جميعاً، ومع ذلك أنظر يقول: باستمرار إلى الحرام ولا أستطيع أن أسيطر على نفسي، هذا الإنسان لو وصل إلى مقام المراقبة فعلاً لتغيرت الحال، لكن المشكلة التي نحتاج أولاً أن نعرفها أيها الأحبة؛ أننا نعرف كثيراً من المعلومات نسمع وقد نتكلم ولكن دون أن يكون ذلك متغلغلاً في قلوبنا وأعماقنا، وكأننا نتحدث أيها الأحبة أو نسمع أشياء ونحن لا نقتنع بها، ولذلك الناس كم يسمعون من خطبة في العام، ما يقرب من خمسين خطبة، أين أثر هذه الخطب عليهم، يسمعون عن أكل الحرام، يسمعون عن آفات اللسان، يسمعون عن النظر إلى الحرام، يسمعون عن كل هذه القضايا فينظر الإنسان في حاله وفي نفسه، الخطيب والمستمع حينما يخرج من المسجد هل خرج بحال جديدة؟، هل تغيرت حاله؟، هل خرج بعمل جديد؟، فنحن لا نعرف في كثير من الأحيان حقيقة ما يخالج نفوسنا من العلل، نحن نستطيع أن نوصف علل الآخرين، ولربما لو قلت لهذا الإنسان ونصحته وذكرته بالله بأنه يعاني من كذا وكذا وكذا لربما انقبض منك ونفر ويرى أنك قد جرحته وآذيته، هل هذا الإنسان عنده إرادة صادقة فعلاً بإصلاح النفس.
مراقبة الله تعالى في الخواطر أيها الأحبة سبب لحفظها في حركات الظواهر، فمن راقب الله في سره حفظه الله في حركاته في سره وعلانيته، إذا تحققت المراقبة في الناس أيها الأحبة فإن ذلك يكون زاجراً ورادعاً يحمل النفوس على ما يجمل ويحسن ويليق، وذلك لا يمكن أن يقارن بحال من الأحوال بحال المخلوقين حينما يلاحظون الرقيب من الخلق، الناس الذين يحترمون النظام، الناس الذي يتركون الجريمة خوفاً من العقوبة ولكنهم إذا تمكنوا تحولت حالهم إلى شيء آخر، هؤلاء أين هم ممن يراقب الله عز وجل وهو يعلم أنه إذا أخذ هذا الطمع اليوم سيدفع الثمن غالياً من حسناته، ولذلك فإنك تجد هذا الإنسان لو كان بيديه كنوز الدنيا ما مد يده عليها، وآخر كلما لاح إليه شيء واستطاع أن يأخذه أخذه ولو من المسجد، لماذا أيها الأحبة؟، هذا راقب الله؛ وهذا لم يراقبه ، هذا يعلم أنه سيحاسب وأن الله يرى ذلك وأن هذه المكاسب المحرمة أحياناً بالملايين.
وقد يعرض على هذا الإنسان إغراءات لرشى لربما تصل إلى الملايين وهو لربما لا يجاوز راتبه عشرة آلاف، ملايين في صفقة واحدة، برشوة، ومع ذلك يترك هذا لله عز وجل، لكن إذا كان لا يعرف ربه والحلال ما حل باليد، مثل هذا الإنسان سيقول هذه فرصة لا تعوض، ويتهم من ترك ذلك لله تبارك وتعالى بالغفلة والضعف والعجز وقلة العقل والقصور في النظر، حينما انطفأ الكهرباء في ليلة واحدة في نيويورك ماذا حصل؟، قبل سنين وكتبت عن ذلك الصحف، ألوان الجرائم من السرقات والاغتصاب، أشياء هائلة، أرقام فلكية، فقط ليلة واحدة ساعات انطفأ فيها الكهرباء تهافت الناس على المتاجر وعلى البيوت ينهبون ويسرقون، لأنهم علموا أن النظام لا يراقبهم، ولا يطلع على أفعالهم هذه، فحارس القانون أيها الأحبة قد يغيب وقوة الخلق قد تزول أو تضعف والحارس قد يغفل والقانون قد يؤول وقد يتحايل الناس عليه فيفعلون ما يريدون، لكن إذا ربينا الناس على مراقبة الله عز وجل فإنهم يكونون في مأمن بإذن الله تبارك وتعالى، مهما لاحت لهم الإغراءات والمطامع.
أولادنا أيها الأحبة؛ بل نحن قبلهم، أمام هذه الشهوات العارمة والفتن العظيمة إذا غاب الإنسان، هذا الولد إذا ربي على مراقبة الله عز وجل حينما يجلس منفرداً وأمامه الجهاز الذي لربما يعرض أكثر من ثلاثمائة قناة، وفي بعض تلك القنوات قد يشاهد كل شيء، إذا ربي على المراقبة فإنه يكون في مأمن، لا ينظر إلى شيء لا يحبه الله عز وجل ولا يرضاه، لكن إذا كان هذا الولد إنما يترك هذه الأشياء خوفاً من نظر أبيه فإذا خلا بمحارم الله عز وجل فلا تسأل، يثري ثرياً.
ولذلك أقول أيها الأحبة، الأب قد يموت، قد يغيب، قد يعجز، قد يضعف، قد يشيب، ثم بعد ذلك قد يسرح هؤلاء الأولاد في أودية الهلكة ويرتعون من هذه الشهوات، في هذه الشهوات، فنحتاج دائماً إلى أن نربي هذه المراقبة في نفوسهم من أجل أن نحافظ على إيمانهم وعلى حالهم مع الله عز وجل أن تكون على استقامة، ولا يخفى أيضاً أيها الأحبة ما بين الظاهر والباطن من الملازمة، استقامة الباطن إذا وجد الخوف من الله عز وجل واليقين بأن الله يرانا يستقيم الظاهر، فالظاهر أثر من آثار استقامة الباطن، كما أن استقامة الظاهر لا شك أنها تؤثر في استقامة الباطن.
وقد جاء عن المعتمن بن سليمان رحمه الله أنه قال: "إن الرجل يصيب الذنب في السر فيصبح وعليه مذلته"، مهما حاول الإنسان أن يتصنع أمام الآخرين، لا تحاول أن تذكر أعمالك عند الناس، لا تحاول أن تفهم هؤلاء الناس أنك تتصدق، أو أنك تقوم على مشاريع خيرية، لا تحاول أن تفهم هؤلاء الآخرين أن لك مساهمات دعوية أو أنك تكفل الأيتام، والأرامل، وما أشيه هذا، لا تحاول هذا، الذي تعمل من أجله يعلم بذلك وكفى، الناس مهما حاولت أن تتزين أمامهم فإن قلوبهم ترفض هذا الإنسان، إذا لم يكن له خبيئة من صدق وإخلاص مع الله تبارك وتعالى.
وقد قال أبو حازم رحمه الله: "لا يحسن عبد فيما بينه وبين الله عز وجل إلا أحسن الله فيما بينه وبين الناس، ولا يعور - أي يفسد - فيما بينه وبين الله عز وجل إلا عور فيما بينه وبين العباد، ولمصانعة وجه واحد أيسر من مصانعة الوجوه كلها، إنك إذا صانعت الله مالت الوجوه كلها إليك، وإذا أفسدت ما بينك وبين الله شنأتك الوجوه كلها".
يقول ابن الجوزي رحمه الله في هذا المعنى يقول: "نظرت في الأدلة على الحق فوجدتها أكثر من الرمل، ورأيت من أعجبها أن الإنسان قد يخفي ما لا يرضاه الله عز وجل فيظهره الله تعالى عليه ولو بعد حين وينطق الألسنة به وإن لم يشاهده الناس، وربما أوقع صاحبه في آفة يفضحه بها بين الخلق فيكون جواباً لكل ما أخفى من الذنوب، وذلك ليعلم الناس أن هنالك من يجازي على الزلل ولا ينفع من قدره وقدرته احتجاب ولا استتار ولا يباع لديه عمل"، يقول: "وكذلك يخفي الإنسان الطاعة فتظهر عليه ويتحدث الناس بها وبأكثر منها حتى أنهم لا يعرفون له ذنباً ولا يذكرونه إلا بالمحاسن ليعلم أن هنالك رباً لا يضيع عمل عامل"، يقول: "وإن قلوب الناس لتعرف حال الشخص وتحبه أو تأباه وتذمه أو تمدحه وفق ما تحقق بينه وبين الله تعالى فإنه يكفيه كل هم ويدفع عنه كل شر وما أصلح عبد ما بينه وبين الخلق دون أن ينظر إلى الحق إلا انعكس مقصوده وعاد حامده ذاماً"، ولهذا كان يقول في كتاب (اللطف في الوعظ): "إذا لم تخلص فلا تتعب لو قطعت سائر المنازل - يعني منازل الحج - لم تكن حاجاً إلا ببلوغ الموقف - يعني عرفة".
فأقول أيها الأحبة: كثير من الناس يحاول أن يظهر أمام المجتمع أمام الآخرين يطلب الشرف والمحمدة وأن يصدق في المجالس ولا يزيده ذلك من الله إلا بعداً وقلوب الخلق ترفضه، والخلوة لها تأثيرات تظهر في الجلوة، كم من مؤمن يحترم الله عز وجل في خلواته فيترك ما يشتهي حذراً من عقابه أو رجاءً لثوابه أو إجلالاً له فيكون بذلك الفعل طرح عوداً هندياً على مجمر فيفوح طيبه فيستنشقه الخلائق ولا يدرون أين هو.
أيها الأحبة، يقول أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "إن العبد ليخلو بمعصية الله تعالى فيلقي الله بغضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر".
الثاني من أثارها وثمراتها: دخول الجنة.
وقد سئل بعضهم: "بما ينال العبد الجنة؟"، فقال: "بخمس: استقامة ليس فيها روغان، واجتهاد ليس معه سهو، ومراقبة لله تعالى في السر والعلانية، وانتظار الموت بالتأهب له، ومحاسبة نفسك قبل أن تحاسب".
السبت 08 أغسطس 2009, 15:46 من طرف ????